مقالات
الرواية الشفهية مصدرًا لكتابة التاريخ وحفظه عبر العصور
د.فايزة ملوكالتاريخ الشفهى هو التاريخ الذى يستمد من معلومات مرورية بعناية، ومنهجية، رواها باحث متمرس لعرض صورة من صور الماضى البعيد أو القريب، ليكون التاريخ الحى الذى تناقله الأشخاص، وعاش فى ذاكرتهم، فهو صوت المعاصرين الحى الذى يفيد المفاهيم القديمة المغلوطة، والمبالغات التى ربما تطرقت إلى الصفحات المدونة فى سجلات الواقع التاريخى.
وللتاريخ الشفهى منهج يتصف بالديمقراطية لأنه يعتمد فى روايته للحدث على الخاصة، والعامة، على الحاكم والمحكوم، ويعكس بعمق قوة عواطف الشخص، والأبعاد الإنسانية للشعب والمجتمع، كذلك يعنى هذا المنهج بدراسة الماضى من خلال الكلمة المحكية المحفوظة فى الذاكرة، والمنقولة مشافهة، ومعنى ذلك أنه يشتمل على التراث وتاريخ العصر.
وهكذا فإن التاريخ الشفهى يتيح الفرصة للراغبين من كافة الفئات للمشاركة فى تسجيل التاريخ، بشرط أن يكون ذلك بحث إشراف مختصين فى أهل العلم، والدراية حيث أن التاريخ الشفهى يتم الوقوف عليه، وتسجيله عن طريق المقابلات الشفهية ومن ثم فإنه يتطلب منهجًا خاصًا يدركه، ويطبقه المختصون فى هذا المجال.
ظهر الاستخدام التاريخى للرواية الشفهية منذ قرون سابقة حيث اعتمد المؤرخين الأوائل بشكل أساسى عليها كالسومريين، اليونانيين، والفارسين، والمسلمين ليصبح منهج التاريخ الشفوى لاسيما عند المسلمين منهج أصيل لديهم وذلك عندما كان العرب يتناقلون التاريخ مشافهة من جيل إلى جيل، فأحاديث الحروب بين القبائل المختلفة التى سميت بأيام العرب، والأنساب والتفاخر بها، وقصص الكرم، وسيرة الملوك، وغير ذلك من الأمور، والتى كانت تقسم بالغموض، والخيال، وعدم الدقة كانت نواة لنشأة التاريخ حيث أن كثيرًا من المؤرخين المسلمين استمدوا منها أخبارهم ودونوها.
والجدير بالذكر أن من عوامل أهمية التاريخ الشفهى أنه لا يعمل الأبعاد غير المرئية فى النشاط الإنسان، والبناء المجتمعى، فالتاريخ ليس فقط الأحداث الكبيرة الضخمة الظاهرة للعيان بل تشترك معها الأحداث غير المرئية فتشكل المجرى الرئيس للتاريخ، فكتابة الحدث تبقى ناقصة إذا لم تتضمن الانفعالات، والمشاعر والتفاصيل المصاحبة للحدث.
ففى العدوان الثلاثى سنة 1956م على قطاع غزة قامت إسرائيل بارتكاب مجاز رهيبة فى معظم مدن القطاع، خاصةً فى مدينة رفح حيث جمعت قوات الاحتلال خلال ساعة كل رجال من سن 16 سنة إلى سن 60 سنة فى المدرسة الأميرية، وذلك بعد أن أعلنوا عن هذا الأمر فى الساعة السادسة صباحًا، وكل من تخلف عن الحضور إلى هذه المدرسة أمر الجنود بقتله، وكل من ذهب إلى المدرسة فإنه تعرض قبل دخوله للضرب المبرح.
هذا الحدث قد يرد فى كتب التاريخ – علمًا أنه لم يورد حتى الآن – ولكن تبقى معاناة أسر أولئك الشهداء والتى تمكن فى الزاوية غير المرئية، والتى منها أن امرأة حينما شاهدت ابنها قتيلاً ضربت بكفيها على رجليها فشلت، وأصبحت مقعدة لا تستطيع حراك رجليها إلى أن ماتت، وهناك أب شاهد ابنه مقتولاً وحملق فيه برهة من الزمن فقد بعدا بصره، وأصبح ضريرًا إلى أن مات بعد فترة قصيرة.
هذه الأحداث وغيرها كثيرة لم تسجل، ويبقى العبء بل الواجب على المؤرخين الذين يعتمدون التاريخ الشفهى كمصدر من مصادر التاريخ إبرازها فمازال بعض من عاصر هذا الجدث حيًا يرزق.
إن التاريخ الشفهى إذا أحسن استخدامه بشكل مصدرًا لا يقل أهمية أو دقة عن المصادر المكتوبة، ومع أن الروايات الشفهية أقل بقاء فى العادة، وأكثر عرضة للتحريف من المصادر المادية، والمكتوبة، إلا أن بعض الوثائق الشفهية كالحكايات والأغانى الشعبية، والأشعار تحفظ فى الذاكرة، وتنتقل من جيل إلى جيل دون تغير تقريبًان وتحفظ فى ذاكرة الشعب لفترات طويلة جدًا.
وبناء عليه فالتاريخ الشفهى له مكان واسع فى التاريخ، ويحتمل أن يصبح أكثر انتشارًا فى المستقبل، وتحتاج روايات الأحياء لجمع من قِبَل المؤرخين أكثر من أى وقت فهى لأنها تتعرض لوصف عدة متغيرات سياسية، اقتصادية، اجتماعية.
وعليه تكمن خطوات البحث فى التاريخ الشفهى فى الإعداد للمقابلة، والباحثين الميدانيين، واختيار الموضوع، وانتقاء الرواة، والمقابلة التمهيدية؛ أما العوامل التى تحدد عدد المقابلات وطولها فأهمها (نوعية، وسن، وخبرة الرواة، وموضوع البحث، والإمكانيات المادية والفنية للباحث، والظروف السياسية والأمنية).
أما عن العوامل التى تحدد قيمة الرواية فتتخلص فى أهمية الموضوع أو الحدث أو الفترة موضوع البحث؛ أهمية دور الراوى فى الفترة أو الحدث، أهمية المعلومات الواردة فى المقابلة، ونوعية التسجيل.
أما المادة الشفهية تقسم إلى ثلاث أنواع (حقائق أصلية، معلومات مساعدة، أحاسيس ومشاعر). مع العلم أن روايات شهود العيان هى أساس التاريخ الشفهى.
أما عن نظرة المؤرخين للرواية أو التراث الشفهى فقد انقسموا ما بين مؤيد ومتحفظ لعدة اعتبارات:
بالنسبة للمؤيدين منهم فقد اعتبروا الرواية الشفهية هى المصدر الأساسى لنقل المعارف والعلوم عامة ً وليس التاريخ فحسب ففى العصر الحديث كان أنصار مدرسة الحوليات والتاريخ الجديد من أشد المدافعين عن الرواية الشفهية، وهنا يرى بروديل وهو من أبزر روادها أن الماضى الطويل لإفريقيا لم يصلنا إلا عن طريق الرواية الشفهية، واكتشافات علماء الآثار نشأت الشعوب التى لم تعرف الكتابة.
أما المتحفظين منهم رفعوا شعار "لا وثائق يعنى لا تاريخ" أى أنهم يهتمون اهتمامًا بالغًا بالوثيقة المكتوبة كونها العامل الأساسى فى كتابة التاريخ ويهملون ما عدى ذلك وقد تأثر رواد هذه المدرسة بالفلسفة الوضعية التى سادت أوروبا خلال القرن التاسع عشر الميلادى حيث لا يعدونها تاريخيًا لكونها تتعرض للتحريف والتزييف وهى أقرب للأسطورة منها للواقع.
أيًا كان الاختلاف حول تأييد الرواية الشفهية من عدمه فإنها تعد مهمة فى بعض الأحيان خاصةً عندما يكون التدوين غير متاح فى كل الحالات وكثيرًا من الأحداث التى تمر على الإنسان لا يعرف أهميتها إلا بعد مرور فترة من الزمن على سبيل المثال ما كان يحدث فى اجتماع الضباط الأحرار للتحضير لثورة 23 يوليو 1952م لمواجهة الحكم الفاسد الممثل فى الملك فاروق وأعوانه لم يتم التعرف عليه سوى من مصدرين رئيسين هما مذكرات الضباط أنفسهم، والمقابلات الشفهية التى كانت تمت مع بعضهم أو أحيانًا نقل عنهم على ألسنة ممن كانوا مقربين منهم وشهود وعيان يتابعون الأحداث لحظة بلحظة.
ورغم ما أشارنا له سابقًا من الضوابط والقيود التى تحكم الرواية الشفهية إلا أنه يجب توخى الحذر فى عدم ترك العنان للرواية الشفهية دون التأكد من تطبيق تلك الضوابط والقيود حتى لا تضيع الحقيقة التاريخية بين الأسطورة والخيال.
وبعد فإن للتاريخ أو الرواية الشفهية ميزة كبرى عن التاريخ المدون وهى أن مؤرخه يقوم بدور فعال فى صناعة مصدره؛ ولكن ضمن منهج دقيق وصعب، ونحن فى هذا الوقت فى حاجة ماسة لكتابة فترات من تاريخنا معتمدين على التاريخ الشفهى لتوثيق أحداث مهمة مثل تهجير الشعب الفلسطينى من بلاده سنة 1948، أو أحداث ثورة 23 يوليو سنة 1952م أو حرب أكتوبر المجيدة سنة 1973م ... إلخ.
فشهادات المعاصرين للحدث لها أهميتها ويجب أن تحظى باهتمام المؤرخين وتسجيلها حفاظًا على جزء مهم من الحقائق التى تعبر عن الدور الأصيل للشعوب العربية مشاركةً للجهود الوطنية فى المقاومة والدفاع عن أراضيهم وآمالهم فى الاستقلال من كل مستعمر يستغل أرض العروبة.
د.فايزه ملوك
استاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب-جامعة دمنهور