مقالات
مِلاحَةُ فى بُحُورِ مُضطَرِبَة (2)
الدكتور محسن عبد الخالقعَادَة ما أعُود إلى قرَاءة التَاريخ وأنا أكتُب حِرصًا على فائدة تُؤكد قيمَة ما مأكتُبه وأنا أمشِى به من مِنطقَةِ " الرّوَايَة " إلى مِنطقَةِ " الدّرَايَة " عند النَّظر بِعمق فى الوقَائع والأحدَاث . إن هذا القَلم لا يزعُم لنفسه إختصَاصًا فى كتَابة التَاريخ ، ولكنَّه يعرف فى نفسه إهتمامًا بقراءَته ، ذلك أن التَاريخ ليس عِلمُ المَاضِى وحده وإنما هو – عن طريق إستقرَاء قَوانِينه – عِلمُ الحَاضِر والمستَقبل أيضًا ، أى أنه عِلمُ ما كان وما هو كائِنُ وما سَوفَ يكون ، ولقد تكرَّمت المَقَادير ومَنَحَتنِى وعيًّا مُبَكِرًا أن أتتلمذ على التاريخ ، لقد عَلمنى التَاريخ أنه لا يلتفت إلى الوَرَاء ، وهو ليس شُعَاعًا يَستدِير إلى الأمسِ لكى يَعرِفَ قِصَّته ، وإنما هو شُعَاعُ يَتجِه إلى الغَدِ لكى يَكتشِف أبعَاده .
فى الأفقِ البَعيد لهذا العنى يَلمع بَرقًا فى خَواطرى عِبَارة ثَمِينة ظل مَغزَاها يُلازِمُنى طوال شَطر كبير من حَيَاتِى لأحد الذين تَركُوا فى هذه الدنيا أثَرًا وذِكرى ، صديقى المفكر الموسوعى السيد يسين – رحمه الله - ذلك عَقِبَ إنتهَائِه من كتَابتهِ مُقدمة كتابى " فى فَلسَفةِ النَّقد " يقول فيها :
الآن تَقَع عليك وحدك مسئولية هَدر هذه الطاقة الخلاقة المُختزنة لديك التى نحن شُهود عليها ، إن هذه القُدرة الهائلة والثقافة الرفيعة والكتابة بأسلوب لا يُبَارَى تَجعلك مسئولًا مسئولية كاملة عن تبديدهَا بالكِتَابةً على " ورق الصحف " أو على شاشة التواصل الإجتماعى كما سمعت . ثم يواصل أستاذُنا وعالمنا الجليل حديثه قائِلًا :
" بعد هذا الذى قرأته لك أرى أن ما تكتبه أصبح لا يخصّك وحدك الآن ، صحيح أنك " أسَاس شَرعِيته " ، لكن الأصَح – أيضًا - أن الناس هم " سَند مِلكيته " الآن . ثم سكت عَالِمُنَا الجَليل لثوانى سَكتَة مُفَكّرة قال بعدهَا :
" إن الكاتبَ يفقِد سُلطته على عمله فور الإنتهاء منه ، ويؤسِفنى أن أقول أن هذه الُّلغة شِبه غَائبَة " ، فإذا بى أشعر بخجل إذا أنا أضَفت قَولًا بعده ، بعد أستاذ جيلى والأجيال التى بعده ، ومُعلم لا يظهر عادة إلا فى عصور الإنتقال عندما تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة ، كان هادىء الطبع ، مُتَوَقّد الذّهن ، إذا تَكلم فكل كلمة تُسهِم فى عَودة الوعى وإيقاظه وخَلقه ، وإذغ كتبَ فكل كلمة أو عِبَارة تَرُدّ للعَقلِ إعتباره .
أستاذنا الجليل ، اليوم أفتقد رؤيتك الكونية ، وإبتسامتك المُنعِشة ، ومكالماتنا اليومية الهاتفيًا الشَّاهد عليها نجلكم البار الصديق الأستاذ " عَمر يسين " حفظه الله ، الذى غَالبًا ما كان معنا على الخط يسمع ما تقول ، وسأظل أحتفظ برقم هاتفك هذا " 01223179221 " يا أستاذنا ولن يستطيع الزمن أن يمشى بالنسيان على ذاكرتى ليمحُوهُ ، وإذا كان الإتصال قد إنقطع بيننا عن " طريق الهاتف " ، فإن الوَصل لم ينقطع أبدا عن " طريق الدُّعَاء " إلى الله أحيانا الصمت وأحيانا أخرى بالسَّهوم ، أفتقد وجودى معك فى مكتبك يا أستاذنا غَارِقًا وسط تلال الكتب والمراجع والرسائل العلمية التى إختلط بعضها ببعض لتعطى " تركيبة " نادرة من العطر المميز .
أستاذ السيد يسين ، مثل كُثُر غيرى بلا عدد أفتقك ، لكنها إرادة الله سبحانه وتعالى .
تذكّرت ذلك وفى خواطرى ذلك القول المأثور عن " رولان بارت " :
" إن مَوتَ " المؤلف " يعنى حياة " القَارىء " ! .
ولما كنا دائِمًا فى حاجة إلى إعادة النظر ثم إعادة النظر فى إعادة النظر ، فقد رأيت أن أعود إلى كتابة " الكُتب " بِوصفِهَا أكفَأ " خَزائن الأفكار " ، ومُحققًا صحيح رأى أستاذ جليل ترك فى هذه الدنيا أثرا وذكرى ، ذلك أن الكتاب وحده هو الذى يَبقَى وأما الكتابة للصحف فهى خَط على رَملِ تَذرُوهُ ريَاحُ اليوم التالى ، كما أن الكتابة للإذاعة هى خط على الهواء عَبرَ الأثير لا يُعثر له على أثرِ فى أعقاب اللفظ به ، فالكتابة على ورق الصُّحف تُصبح إلى جانب كونها خطا على الرمل ، هى محاولة لإستقرء الرَّمل نفسه ، أيضًا !