مقالات
”أحد فلاسفة الجمال ”..صديقى الفنان الكبير حسين بيكار
الدكتور محسن عبد الخالق
اليوم عاودنى الحنين لقراءة بعض لوحات واحد من أكبر دعاة الحب وأنبياء الجمال الذى لا ينقل الأشياء وإنما يبتكرها ثانية ، ولا ينسخ الوجه وإنما يرسم صفاته على نحو من العذوبة والرقة لا يمكن تكراره ، فالأشياء عنده تأتلف بإختلافها نفسه وتختلف بإئتلافها نفسه ، وكذلك المعنى سائل مُتحرك يتغير بإستمرار بحيث يمكنك أن تلمح فى بعض لوحاته نوع خَفىّ من الصلاة إلى المجهول ، وللمنتهى أشكال لا تنتهى .
يعتمد صديقى الفنان التشكيلى الكبير " حسين بيكار "على إيقاع اللمسة ونبض اللون فى تحقيق التناغم الموسيقى ، ومن بين لوحات فيه الريح تكشط الحجر ، ولوحات الحجر فيها يخاف ، ولوحات فيها الغياب هو ذروة الحضور ، ولوحات فى مائها عطش ، ولوحات الظلام فيها هو النور ، عَبَرَت فى خواطرى " لوحة " مازلت أحتفظ بشذاها لونها المميز والإحساس الذى كان يسكن فى أركانها البعيدة ظلالاً وبريقًا ، توقفت أمامها لبعض الوقت متأملاً ودارسًا ألوانها التى تكاد تذوب من الرقة والجلال فى آن معًا ، كانت فيها سيكلوجية الخطوط تُومِىء وتشير إلى تغيير لَمَحْت ومضاته مع لمسات الفرشاة حتى رَاوَدنى إحساس بأن " مصر أمامى " تحاول أن تستجمع قواها لتصعد فوق خط الأفق المرئىّ وبعده أيضًا لتسير بمحاذاة السحاب تاركة وراءها سنوات من السَّوَاد والعَدم أعتبرها ليل داخل الليل وزَمَنًا خارج الزمان .
كنت دائم الزيارة لصديقى الفنان التشكيلى الكبير " حسين بيكار " فى بيته 19 شارع حسن عاصم – الزمالك الذى حَوَّله إلى مُتحف من متاحف الفنون الرفيعة ، كان أول ما يستقبلك فى مدخل البيت آلة البُزُق مُعَلّقة على الحائط تلك الآلة الموسيقية التى وقع " بيكار " فى هواها وكان عَازِفًا مُتَفَرّدًا على وترياتها ، وإستطاع أن يحوّل موسيقاها ألوانًا سائلة على الجدران البيضاء لا تُخْطِئها الحواس ، والبُزُق هي آلة موسيقية وترية تشبه العود ذات عنق طويل وجسم أصغر من العود وتتألف من وترين مزدوجين" صول ودو " وتعتبر إحدى علامات الهوية العربية ، وبمكنك أن تجدها مرسومة في اللوحات الفنية القديمة ومذكورة في الوثائق والكتب التاريخية .
أذكر حين تعرَّضت لحادث سيارة أليم ألزمنى فراش المرض شهورًا عددًا أن جاءنى زائرًا مأخوذًا بدهشة المفاجأة حَاملاً بين يديه باقة من الزهور رقيقة مثله ومعه كتابه الأخير " لكل فنان قصَّة " الذى صدر أخيرًا عن دار نشر " كتابى " وقد حرصت أن أحتفظ " بزهرة واحدة " من بين زهرات هذه الباقة الأخَّذة من الزهور فى أوراقى إعترافًا وحُبًا . أوراق الورد يمكن أن " تَجِف " لكن عطرها – أبدًا – لا " يَكِف " ، وفى حدائق المحبَّة يمكنك أن تجد " وردة واحدة " قادرة بِمُفردها أن تعطر لك " الوجود " .
فى كتابه " لكل فنان قصة " يُحَدثنا الفنان التشكيلى الكبير " حسين بيكار " عن خمسين عبقرية من أعظم ما أنتج الفكر البشرى ، وجاء على صفحته الأولى هذا الإهداء الذى يتجاوز قدرى ، كان الفنان الكبير قد صَاغه بمداد من الحَنان ومَزَج فيه بين حروف من فن الأرابيسك وأخرى من فن الزجاج المعشَّق ، فى واحدة من اللقطات النادرة للمشاعر الدافئة التى سأظل أحتفظ بها فى أكفَأ خزائن المحبَّة ، يقول الأستاذ الأب :
" إلى أروع صورة من صور الوفاء والرقة . إلى ولدى الحبيب الأديب الفنان محسن عبد الخالق ، مع وافر الإعجاب والحب . حسين ببكار ، 1 / 12 / 1986 .
إذا أردت أن تلقاه فإن بيته هو " البورتريه " وهو وموطنه الأصلى ، وهو دائما مقيم فى لوحاته واللوحة عنده " لحظة إنبهار " وفكرة تُحَركها ألوان وظلال .
يمر بخاطرى الآن لقاء معه كان فى بيته حول آخر المعارض التى قمت بزيارتها ، قلت :
أستاذ حسين ، أنا دائم الزيارة لمعرض مثال مصر الخالد " محمود مختار " ثم حَدَّثته عن تمثال " رياح الخماسين " لمختار الذى كلما رأيته وقفت أمامه وقفة المُتَجَمّد أتأمل " حجر يَتَنَهَّد وأزميل يَقْرض الشِعر " ، وكيف تحولت كُتلة صماء من الحجر منقوشة بلا كتابة إلى قطعة موسيقى مُتَجَمّدة ، ثم أضفت كان الحجر ينطق بفم الهواء ، حقًا إن مصر هى كاتبة النص الحضارى والإنسانى على تعاقب الأجيال مع إختلاف العصور ، فيها قراءة " الحجر " أكثر مُتعة من قراءة الكُتب " عليك فقط أن تُعير أذنيك قليلاً لفصاحة الحجر ! . بعدها رأيت ظل إبتسامة كسيفة عبرت على شفتيه وقال : أعرف .
لَدَيَّ مقياس أثق فى حسابه هو : " الفن " .. الفن يسبق الصحوة دائما ويبشِّر بالقوة عادة .. كذلك ظنى .
الفن هو الأب الحقيقى للثقافة فى كافة مجالاتها ، ثم أن الفنون التشكيلية هى الحلقة الرئيسه فى قصة الصعود المدهش على سلم المجد…