مقالات
سيول السودان.. والحقيقة الغائبة
محمد عبد المنصفأثبتت الفيضانات العارمة التي تعرضت لها السودان علي مدي الأسابيع الماضية، حتمية إدارة ملف المياه في حوض النيل بصورة متكاملة بين الدول، فالأمطار الغزيرة سقطت أولا علي الهضبة الاثيوبية ثم انتقلت الي السودان، وهطل معها أمطارا غزيرة علي منابع النيل الأبيض في بحيرة فيكتوريا بأوغندا، مما أدي الي تدفقات غير مسبوقه لمياه النيل الأبيض.
أغرقت أكثر من عشرة ولايات من بين ولايات السودان الثمانية عشر التي تعرضت هي الأخري لأمطار غزيرة لم تحدث منذ عام 1902 ، مما نتج عنه مصرع 103 مواطن، وتصدع وانهيار 100 ألف منزل وتشريد 500 ألف مواطن سوداني.
وبالرغم من امتلاك السودان العديد من السدود الا أنها لم تستطع تأمين البلاد من مخاطر السيول، وان كانت خففت من حدة الأزمة، لاسيما وأنها حملت معها دون شك كميات هائلة من الطمي، دمرت كل مشروعات الري من خزانات وترع ومصارف.
والواقع انه منذ اكتشاف منابع النيل في القرن التاسع عشر كان هناك تساؤلا حول ارتباط منظومة الري والصرف في دول حوض النيل،بعضها ببعض وان إدارة المياه لا يمكن ان تتم في دولة بمعزل عن الدول الأخري ، وأن معاناة الشعوب من أزمة المياه لا تقتصر علي ندرتها بل تمتد لتشمل غزارة المياه التي قد تؤدي الي تدمير مدن وقري بأكملها وهو ما حدث بالفعل.
ومن المؤكد أن الشعب الأثيوبي نفسه قد تأثر بشدة من غزارة الأمطار التي سقطت علي بلاده بقوة شديدة، غير أن 80% من السكان يعيشون في الجبال قد خفف من حدة المعاناة علي الشعب الأثيوبي، فقد غرقت كل الوديات تقريبا بصورة يستحيل معها الحياة البشرية.
لقد حملت السيول معها رسالة ربانية بحتمية تعاون دول حوض النيل في ادارة مواردهم المائية، فالمشكلة لا تقتصر كما يعتقد الكثيرون علي المياه الجارية ، بل في قدرتنا علي تعظيم الاستفادة من مياه الأمطار المتساقطة لدفع عجلة التنمية للأمام .
ومن المؤكد أن كل دول الحوض في حاجة لإقامة العديد من المشروعات التنموية سبق وأن اقترحها الخبراء في مبادرة حوض النيل التي أعلن عن قيامها في عام 1999، ودعمها البنك الدولي بمبلغ قدره 140 مليون دولار لتمويل الدراسات اللازمة لإقامة مشروعات متكاملة علي النيلين الأبيض والأزرق، ولكنها لم تخرد الي النور .
لا شك أن كل دول حوض النيل تعاني من ضعف في تمويل مشروعاتها، كما تعاني من عدم قدرتها علي تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، ومن اعتمادها في الري علي الأمطار وليس الري الدائم، ولكنها في النهاية تملك مواردا هائلة تكفي لتحقيق كل أمانيها، فبمجرد اضافة رية تكميلية للأراضي التي تروي بمياه الأمطار ترتفع انتاجية الأراضي الي الضعف، كما ترتفع جودة الثمار.
وشاءت ارادة الله ان تعيد كل شعوب الحوض النظر في اسلوب ادارة مواردها الطبيعية، وطريقة التعاون الثنائي فيما بينها، وربما كانت هذه المحنة منحة من الله لطرح مبادرة قومية للإقليم يتم من خلالها الاستفادة من الموارد المتاحة بما يحقق الخير للجميع ولا يمثل ضررا لشعب علي حساب شعب آخر.
وسبق وأن طالبت في مؤتمر التكامل بين مصر والسودان الذي عقد بجامعة القاهرة في مايو 2009، بضرورة اعادة تنظيم القري في مصر والسودان وربط الطرق، والشبكات الكهربائية بينهما،لأن قري السودان كثيرة جدا، ولكنها قليلة السكان بصورة لا تسمح باقامة مشروعات خدمية من مدارس ومستشفيات ومراكز شرطة واسعاب وخلافه .
أضف الي ذك أن اغلبها مقام في مناطق غير آمنه، لا تقوي علي مواجهة السيول، ولابد من أعادة توزيع السكان علي كل الأراضي السودانية فلازال اكثر من 30% من السكان يعيشون في الخرطوم، واعتقد أن هذا هو أنسب وقت لتنفيذ تلك الدراسة فمن المؤكد ان هذه القري سيعاد بناؤها، بعد توقف فيضان النيل الأزرق مطلع الشهر القادم و لابد ان يعاد بناؤها علي اسس علمية بعيدا عن مخرات السيول .
أناشد المسؤولين في كل دول حوض النيل باسم كل انسان يعيش الآن مشردا في بلاده ، لاي عرف ما الذي ينتظره هو وأولاده من مسقبل غامض، تحكيم المنطق لتلافي كارثة 2020 مستقبلا ، والتي لم يكن يتوقعها أحد فقد كنا جميعا نعتقد أن يكون فيضان هذا العام ضعيفا ولكن إرادة الله كان لها شأن آخر.