كتاب الادب
الهوية الوطنية بين الموروث التاريخى وتحديات العولمة والرقمنة
د.فايزة ملوكإن هويتنا هى عنوان أمتنا، ومصدر تميزنا عن الأمم والشعوب وهى مبعث فخر واعتزاز لنا؛ وللأجيال التى تأتى من بعدنا، وتُعد قضية التراث والهوية الوطنية واحدة من أهم الإشكالات فى فكرنا العربى المعاصر كونهما يمثلان المرجع، والخصوصية هذه الثنائية التى طالما أرقت الآخر، محاولاً بشتى الوسائل طبيعتها وطمس كل ما يمت بصلة للحضارة العربية والإسلامية التى أرست قواعدها على أرض هذا الوطن.
وتأسيسًا على ما تقدم يمكن أن نعرف التراث بأنه لا هو الموروث الثقافى والاجتماعى، والمادى، والمكتوب والشفوى الرسمى، والشعبى، اللغوى وغير اللغوى الذى وصل إلينا من الماضى البعيد والقريب، وهذا التعريف يحاول أن يراعى الشمولية فى تحديد التراث فهو يضم مقومات التراث جميعها الثقافية فيها مثل علم الأدب، والتاريخ، واللغة، الدين، والجغرافية، والعوامل الاجتماعية مثل الأخلاق، والعادات، والتقاليد، ومن ثم العناصر المادية كالعمران وأخيرًا ما يتضمنه من تراث شعبى يتمثل فى المكتوب والشفوى واللغوى وغير اللغوى.
أما الهوية كمصطلح فهى عبارة عن مجموعة من الصفات المميزة والمتكاملة والمتفاعلة فيما بينها لتعطى لشخص أو شعب معين، أو أمة معينة مميزات يعرف لها؛ وتنقسم الهوية إلى نوعين هما هوية فردية وهى التى تمثل المميزات، والخصائص الجسدية التى تميز الإنسان من حيث كونه فردًا عن بقية الأفراد سواء داخل مجتمعه، أو خارجه، وهوية وطنية أو قومية، وهى جملة الصفات والخصائص التى تطبع أمة من الأمم يشترك فيها مجموع الأفراد المكونون لها فيتعرفون على بعضهم البعض من خلال هذه الصفات ويتميزون لها كذلك عن غيرهم من أفراد الأمم الأخرى.
أما عن علاقة الهوية بالتراث فإن البحث فيها يجمع بين الخصوصية والمرجع، هذه الخصوصية التى تعبر عن هويتنا لم تنشأ من فراغ وإنما هى نتاج تجربة بأفراحها وأتراحها عاشتها المجموعة، واشتركت أفرادها فى رسم صورها، وإخراجها فى حلة تعبر عن هوية الأمة، وما تزخر به من موروث تاريخى، يعكس ماضيها ويترجم حاضرها، وتستلهم من خلاله مستقبلها.
فالتراث ما هو إلا صورة حقيقية لماضى الأمة، وديوان مفاخرها، وذكرياتها، ومستودع تجاربها بنجاحاته وانكساراته هو ما يوحدنا ويميزنا عن باقى الجماعات البشرية، فكل الذين يشتركون فى تاريخ واحد يعتزون ويفتخرون بمآثره هم أبناء أمة واحدة، وشعب واحد، وهوية واحدة، ومن ثم فإن الهوية هى نتاج لحركية التاريخ فى المجتمع، تتغير وتتبدل وتتطور حسب وعى الجمعى للشعوب بهذا التاريخ، ونستطيع القول أن حجر الأساس فى عملية التقدم الاجتماعى والحضارى لآية أمة من الأمم مرهون بمدى وعيها بتاريخها، وتراثها الذى يمثل تجارب إنسانية جاهزة ورثتها عن أسلافها تنطلق بها نحو المستقبل، فالتراث ليس هو الماضى بكل ما حصل به من تطورات فى المجالات جميعًا، وما شهده من أحداث تعاقبت عبر العصور، ولكنه الحاضر بكل تحولاته.
والمستقبل بكل احتمالاته يمتع حياتنا وينتقل معنا إلى المستقبل فهو جزء منا لا نستطيع الفكاك منه وبذلك يصبح سمة أصيلة من سمات الهوية به تكتمل عناصرها وبصيغته تصطنع فهو يمثل التجربة الفعلية للآباء، والأجداد، وما خلفوه لنا من علم، وفكر، وحكم، وفلسفة، وشعر وغيرها من التجارب الإنسانية الجاهزة التى يجب علينا أن نعيها، وأن تكون هى الأساس الذى يوحدنا، والمنطلق الذى يحفزنا فى بناء المستقبل.
ومن هنا فالفصل بين التراث والهوية هو ضرب من المستحيل فلا هوية بدون تراث تستند إليه، ولا تراث إذا لم يؤسس الهوية فالتراث والهوية عنصران متلازمان من عناصر الذات، ومكونان متكاملان من مكونات الشخصية الفردية والجماعية.
كما نجد أن الهوية فى الحقيقة – ما هى إلا مجموع الصفات والخصائص والمبادئ التى توارثتها الأمة عن أسلافها عبر سيرورة واعية بها وبالتاريخ الذى جسدها وبالتراث الذى بقى شاهدًا على ذكرياتها.
وعليه فالباحث فى مجال الهوية الوطنية كان لزامًا عليه البحث فى تاريخ مصر الممتد لآلاف السنين وما تعاقب عليها من حضارات قديمة، ووسيطة، وإسلامية انتهاء بالاحتلال البريطانى لمصر عام 1882م واستمر حتى عام 1956م بتأميم قناة السويس على يد الرئيس جمال عبد الناصر ورغم جبهة الاستعمار وقوته العسكرية ومخططاته الفكرية الهادفة لطمس الهوية المصرية لم يستطع النيل منها بل قاوم الشعب المصرى إلى أبعد الحدود حتى يحافظ على ثوبه الأصيل المتمثل فى الإسلام والعروبة.
وبفضل المفكرين أمثال رفاعة رافع الطهطاوى، والإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغانى، ومصطفى كامل، ومحمد فريد وغيرهم نجح الشعب المصرى فى مقاومة الاستعمار والدفاع عن الهوية وموروثهم التاريخى واستمر ذلك فى وقوفهم أمام سياسات الملك فاروق الاستبدادية وانهيار وأنظمة الحكم فى عهده إلى أن جاءت ثورة 23 يوليو 1952 لتقضى على النظام الملكى رمز الظلم والاستبداد وإعلاء الانتماء للهوية الوطنية وإعلان النظام الجمهورى لحكم مصر بقيادة جمال عبد الناصر الذى دافع بدوره عن تلك الهوية وإرساء قواعدها أمام الاستعمال الغربى ومحاربة كل من يحول طمس معالم تلك الهوية وعلاقاتها بالتراث التاريخى.
فالتاريخ يشهد الحروب والمقاومات التى خاضعها الجيش والشعب ضد الكيان الصهيونى على مدار مراحل الصراع العربى – الإسرائيلى (1948-1973م) ليس بالسلاح فقط بل بالفكر على يد مفكرين ومثقفين وصحافة ووسائل الإعلام، والمظاهرات فى الشوارع دفاعًا عن الأرض والهوية والموروث التاريخى والثقافى وما نستديل به هنا من أشعار الشاعر محمود درويش التى جاءت بعنوان « ارتباط اللغة بالمكان والهوية والدفاع عن الأرض ضد مغتصبيها من الاستعمار» وذلك بقوله «الهوية؟ قلت – فقال: دفاع عن الذات ... إن الهوية نبت الولادة لكنها فى النهاية إبداع صاحبها لا وراثة ماضى» أنا المتعدد فى داخلى خارجى المتجدد ... لكنى انتمى لسؤال الضحية» فهو هنا يعبر عن التقاط الوجدان الجمعى للأمة، وتحويل الشعر إلى قوة وطنية ثقافية روحية ومادية، وجمالية، ومعرفية تشمل الحماسة فى روح الشعب وتمنع الاحتلال من أرضه.
أما الباحث فى مجال العولمة يجد أن هذا المصطلح ظهر فى بادئ الأمر فى مجال الاقتصاد والتجارة الدولية، إذ نجده مستعملاً بغزارة فى الدراسات الاقتصادية، ثم أخذ يجرى الحديث عنها بوضعها عالمًا متجاورًا يتعدى الجانب الاقتصادى ليشمل جميع النواحى والمجالات السياسية، والاجتماعية، والفكرية، والثقافية.
ومن خلال البحث عن تعاريف اصطلاحية للعولمة نجد أنها هى دمج ثقافات العالم، واقتصادياته وبنياته التحتية من خلال الاستثمارات الدولية، وتنمية تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وتأثير قوى السوق الحرة على الاقتصاديات المحلية، والإقليمية، والعالمية. وهناك من يرى أن العولمة هى إقحام الجميع فى دخول ترس الآلة العالمية بسبب الثورة الجامحة للمعلوماتية، وتطور تقنية الاتصالات، وبذلك يكون مصر الإنسانية موحدًا لا مجال فيه للاختلاف والتنوع.
إن العالم اليوم أصبح يزدحم بعديد من الأحداث والمستجدات التى تكون فى مجملها نتاج الصراع بين حضارات، وهويات مختلفة خصوصًا بين الشرق والغرب، أو إن صح التعبير بين الغرب، والعالم الإسلامى، هذا الصراع القديم الحديث الذى لم يسبق للعالم أن شهده بصورته الحالية وبوسائله وأسلحته الفتاكة الضاربة فى صميم عمق المجتمعات العربية والإسلامية وهويتها فنجد تهاوى الحدود بين الداخل والخارج من جراء ثورة الاتصالات والمعلومات.
وبعد أن تحققت الهيمنة الغربية السياسية والعسكرية ثم الاقتصادية لم يتبق إلا اكتمال الهيمنة على الصعيد الثقافى؛ ولذا فلا عجب أن تكون الحرب حربًا ثقافيًا تحت ما يسمى بالعولمة تهدف إلى اكتساح الخصوصيات الثقافية، والاجتماعية للمجتمعات وطمس هوياتها القومية والوطنية، وعدم السماح لأى أمة أن تتميز بدينها، وهويتها، وقيمها تميزًا يتعارض مع متطلبات العولمة مما تبحث عنه من قدر مشترك بين الشعوب، والحضارات يتلاءم مع نتاج الحضارة العربية.
إذ أصبح العالم يشهد ثورة تكنولوجية عارمة لا قِبل للإنسان بمواجهتها تشتمل على الإنترنت، والهواتف النقالة الذكية، والحواسب المكتبية، والمحمولة إلى غير ذلك من تقنيات الاتصال الحديثة التى ألغت كل الحجب، والحواجز بين الشعوب والثقافات مسقطة طبائع العزلة، فدخلت البيوت، وسيطرت على العقول، وسكنت النفوس مجسدة بذلك ملامح العولمة الغربية التى تلعب ببراعة على حبل التقدم التكنولوجى، وتعاظم دور المعلوماتية وذلك كله من أجل ضرب الهويات الوطنية والقومية للشعوب، ونزع الارتباط الوثيق لمفهوم الوطن المتصل بالأرض ليلغى بذلك عامل الأرض والوطن، والتراث المشكلون للهوية الوطنية، ويفتح الماجل أمام هويات أخرى دخيلة تهدد الهوية الأم.
إن هذه التكنولوجيا برغم ما تقدمه من عطاء، وتسهيل لسبل الحياة، وتطوير نظام العيش فى العالم، إلا أننا لا يجب أن نغفل لما يمكن أن تسببه هذه الأخيرة من انعكاسات سليبة فى شتى المجالات لاسيما الاجتماعية والثقافية منها، كما أنها تسعى كذلك إلى محو وإلغاء كل الفواصل الجغرافية، وتهدد التنوع الثقافى والحضارى للمجتمعات الإنسانية الضارب فى أعمال التاريخ. وقد نتج عنها عملية إبادة شاملة للموروثات الثقافية والحضارية للأمم، خاصة الضعيفة منها، وغير المحصنة.
والمجتمع المصرى باعتباره جزءًا من هذا العالم العنكبوتى الرهيب يتأثر مثله مثل بقية المجتمعات المستهلكة، والمستقبلة للقيم الجديدة الوافدة من وراء البحار والتى تهدد لا محالة الهوية الوطنية وتعريتها فى الصميم، فالإنسان المعاصر لم يعد يستقى مفاهيمه وخبراته من الموروثات، ومن تجارب الأجداد، وتاريخهم، بل أصبح يستند إلى تجارب جديدة تفرضها عليه التكنولوجيا ووسائطها الباهرة التى لا قِبَل لها بها، وأصبحت مرجعيته الدنيوية وحتى الدينية يستقيها من وسائل الإعلام، ومواقع الإنترنت خصوصًا مواقع التواصل الاجتماعى المنتشرة بشكل رهيب ومخيف فى المجتمعات مهددة استقرارها، ونظم عيشها لما تقدمه من كم هائل من المعلومات والتعليقات والتوجيهات التى قد تعارض البنية السيسيولوجية للمجتمع.
كل هذا يحدث فى غياب تأثير وسائل إعلامنا على مختلف أنواعها وعدم قدرتها على مواكبة متطلبات الشباب ورغباته، وميوله النفسية والثقافية؛ فالعالم العربى بصفة عامة والمصرى بصفة خاصة هو بعيد كل العد عن تكنولوجيا الاتصالات والرقمنة الحديثة، والدور الوحيد المنوط به فى هذه الشبكة هو دور المستقبل المتلقى، الناتج لشفراته دون أى إرسال أو تأثير فى الغير، فحجم القنوات الفضائية وتطبيقات الهواتف الذكية، وصفحات الإنترنت العربية ضئيل جدًا مقارنة باللغات الأخرى ليبقى العرب بعيدين كل البعد عن الدخول الفعلى فى ترس هذه التكنولوجيا العالمية التى أصبحت مهمة فى حياة الإنسان المعاصر.
وفى خضم هذا المناخ الدولى غير المستقر، وتعاظم دور تكنولوجيا الإعلام، والاتصال التى أصبحت اليوم تهدد المجتمعات الإنسانية فى خصوصياتها الثقافية والحضارية، وفى أمنها الفكرى، والعقائدى وفى هويتها الوطنية، وثقافتها القومية، وفى تراثها الحضارى يستدعى منا التخطيط وإعادة النظر فى سبيل الحفاظ على مقومات الهوية الوطنية، وتحميها من كل القنوات الدخيلة التى تصب فى عقول شباب اليوم جارفة معها كل ما تجده من أفكار، وقيم، وعادات، حاول التراث على مر التاريخ أن يحافظ عليها، ويرسى دعائمها.
ومن ثم نقترح حلولاً لعلها تكون مفتاحًا للحفاظ على الهوية الوطنية، وإرسائها فى ظل العولمة، والرقمنة على سبيل المثال:
- إن الحرب اليوم هى حرب إعلامية تستهدف الأفكار والعقول، لا حرب رصاص وبارود، والمنتصر فيها هو من امتلك التكنولوجيا، ومفاتيحها، لذلك يجب على الدولة الانفتاح على تكنولوجيا الإعلام والاتصال ومحاولة تطويرها.
- يشهد مجتمعنا كبقية المجتمعات فى هذا العصر انفتاحًا على الآخرين ولا يمكن للدولة أن تحد منه، ويبقى دورها الأساسى فى هذا الحول إعداد مواطنيها، والأجيال الصاعدة على أن يكونوا فاعلين فى هذه المرحلة بما تزودهم به من فرض تنمية مهارات الاتصال والتفكير والانتقاء الجيد من الموروث الثقافى الوطنى قصد دمج الصور الإيجابية تجاه الفضاء الذى ينتمون إليه.
- إعادة النظر فى طرق الحفاظ على المواطنة والتمسك بمبدأ وحدة الأرض والتراث، والحفاظ على مقومات الأمة.
- تربية النشء تريبة صحيحة سليمة مبنية على تراث الأجداد وما خلفوه لنا من قيم، وعادات، وتقاليد حتى إذا ما دخلوا ترس هذه التكنولوجيا كانت لهم الدرع الحصين والواقع.
- إعادة النظر فى المنظومة الثقافية (المسجد، المدرسة، الجامعة، المعاهد، المراكز، والمنتديات الثقافية ... إلخ) من خلال تجديد خطابها ووسائل تلقينها ومتطلبات التقنية للعصر مع إبراز الجوانب التراثية المشرقة وتكريسها كعامل وحدة للمجتمع والأمة.
- الاعتراف بالتنوع اللغوى والثقافى والدينى الموجود فى الوطن حتى لا يفتح المجال أمام قوى أخرى وتدخلات أجنبية.
- إن الحفاظ على التراث هو حفاظ على الهوية لذا يجب تسخير كل المتطلبات الضرورية للحفاظ عليه ماديًا ومعنويًا والاستفادة منه فى بلورة القيم، وسلكيات النشء، وإيماء هويته.
وعليه يجب أن نعى جيدًا زماننا والخطر الذى أصبح يهدد كياننا، ونبحث عن حلول جذرية تتماشى والعصر الذى نعيش فيه، فنحاول أن نستفيد من هذه التقنيات ونأخذ الجوانب الإيجابية فيها وننشر من خلالها ثقافتنا وتراثنا، ونكون مؤثرين فى الغير لا متأثرين سلبًا إم إيجابًا.
د.فايزة محمد حسن ملوك
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ورئيس قسم التاريخ كلية الآداب جامعة دمنهور