مقالات
مع يحيى حَقّى .. الأستاذ الصَّديق ..
د محسن عبد الخالقألو :أيوة يا محسن قبل ما أنسى اليوم إنزل إلى مكتبة الهيئة المصرية العامة للكتاب بعبد الخالق ثروت ستجد كتابى " عشق الكلمة " عايزك تقرأ فيه فصل بعنوان " تلامس القَشّ " صفحة 57 هُمَّة 6 صفحات فقط ، كنت قد كتبته بصحيفة " المساء " بتاريخ 6 / 5 / 1966 ، وتقولى خرجت منه بإيه ..
حاضر يا أستاذ يحى ..
وبسرعة ذهبت وحصلت على نسخة من الكتاب وقرأت الفصل ، وكان بيننا حديثًا مطوَّلًا ، أحفظه كما أحفظ إسمى ، وأحتفظ به لنفسى حتى لأ أقع فى محظور شهادة مجروحة ..
قبل نهاية حديثى معه فاجأنى بثناء يتجاوز قدرى حول مُقَارنة نُشِرت " بالأهرام " كنت قد عقدتها بين أسلوب يحى حقى وأسلوب الدكتور لويس عوض فى الكتابة النقدية قلت فيها :
إن يحيي حقي يغمس قلمه في مداد من الحنان ليكشف النقاب عن جوهر موهبة جديدة ، فى حين تبدو كلمات لويس عوض لها ملمس الشَّوك فى كل مرَّة يقوم فيها بإجراء عملية جراحية على الورق من أجل أن يعلن عن ميلاد موهبة جديدة ..
نقد يحى حقى فيه قَسوة الأب ..
بينما ..
نقد لويس عوض فيه قَسوة المُعَلّم ..
غير أن حاجتنا ماسة لكلتا القَسوتين ..
سنوات باعدت بين سنوات أخرى بعدها ، ومازل يتردَّد فى أذونى رجع صدى من نبرات صوته على الهاتف لتبعثنى من جديد ..
الآن ..
نعيش الآن على عطر الأحباب ..
فى زمن إختلت فيه عدالة موازين التقدير ..
فإلى الذين يعرفون يحى حقى الأديب المُبدع ، رأيت أن أقدم يحى حقى الناقد الخلَّاق من خلال ما كتبه ناقدًا لرباعيات " صلاح جاهين " يقول يحى حقى فى كتابه " عطر الأحباب " :
الرباعيات هى أحب قوالب الشعر عندى لأنها تعين على نفى الفضول وعلى التحرر من أسر القافية ، فتجىء كل رباعية بمثابة الومضة المتألقة ، أو بمثابة الحجر الكريم ، قيمته فى إختصاره الى قلبه وصقلة لا فى كبر حجمه . وقد يتوهم المتعجل أن أضعف بيت فى الرباعية هو بيتها الثالث غير المُقفى ولكنه فى نظرى عمادها ، ففى البيت الأول والثانى عرض لأوليات الموقف ، وفى البيت الثالث إرتفاع مُفاجىء الى القمة . قد تبدو للنظرة الأولى أنها جانبية ليتبعه فورا من شاهق كأنه طعنة خنجر يختم بها البيت الرابع فصول المأساة . البيت الرابع هو دَقَّة المطرقة على السندان بعد أن كانت مرتفعة فى الهواء لذلك أكره للبيت الرابع أن يجىء على صيغة الستفهام لأن حبله محدود .
أسارع هنا لاستشهد برباعية فى هذا الديوان الصغير الحجم القوى الأثر كأنه " قنبلة يدوية " الذى أخرجه سنة 1963 الفنان الشاعر الأستاذ صلاح جاهين باللغة العامية - يقصد باللهجة العامية - والذى يسعدنى اليوم أن مأقدمه للقراء .
الرباعية السادسة تقول :
" خرج ابن آدم من العدم ، وقلت ياه ..
رجع ابن آدم للعدم قلت ياه ..
تراب بيحيا وحىّ بيصير تراب ..
الأصل هو الموت ولا الحياة ؟
عجبى .. " .
فإنى أحس أن البيت الثالث لي هو حركة الإرتفاع ، بل هو حركة السقوط من شاهق هو الختام ، ، والسؤال الذى جاء بعده لغو ، يزيد من ضعفه أنه جاء على هيئة استفهام حبله محدود .
وينبغى كذلك أن لا يكون البيت الثالث استمرارا لعرض الأوليات الواردة فى البيتين الأول والثانى بل تتمثل فيه كما قلت حركة جانبية مفاجئة ، وهى فى نظرى حركة إرتفاع ليتحقق بها طعنة الخنجر الذى يهوى بها البيت الرابع .
وهذا العيق يتمثل أيضا مع الأسف فى الرباعية الأولى لصلاح جاهين التى تقول :
" عِلمى أن كان الخلق من أصل طين ..
وكلهم بينزلوا مغمضين ..
بعد الدقايق والشهور والسنين ..
تلاقى ناس أشرار وناس طيبين ..
عجبى .. " .
فالبيت الثالث هنا لغو لأنه استمرار فى العرض ، لا تتمثل فيه حركة جانبية وزاد من ضعف هذا البيت الثالث أنه جاء على روى الرباعية ، مع أن الأصل فيه ، وحلاوته ، أن يكون على خلافها .
يؤسفنى أن أكون قد بدأت النقد . هكذا شار استطراد الكلام . أصبر قليلًا تجدنى من أشد المعجبين بصلاح جاهين وديوانه " الرباعيات " .
الكمال الذا أنشده يتمثل فى الرباعية الآتية :
" دخل اشتا وقفل البيبان ع البيوت ..
وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت ..
وحاجات كثير بتموت فى ليل الشتا ..
لكن حاجات أكثر بترفض تموت ..
عجبى .. " .
فى البيتين الأول والثانى عرض للأوليات ، والبيت الرابع ، دَقَّة المطرقة ، لم يتحقق أثره إلا لأن البيت الثالث " الخارج عن الروى " قد خدعنا بتأكيده أن اشياء كثيرة تموت فى الشتاء فإذا بنا نفاجأ كأننا نسقط من شاهق أن أشياء أكثر ترفض أن تموت فى الشتاء .
وإنظر أيضا إلى الرباعية الآتية :
" مرحب ربيع مرحب ربيع مرحبه ..
يا طفل ياللى فى دمى ناغى وحبا ..
علشان عيونك يا صغير هويت ..
حتى ديدان الأرض والأغربة ..
عجتبى .. " .
فلكة " هويت "