مقالات
مِلاحَةُ فى بُحُورِ مُضطَرِبَةُ دُمُوعُ تُجَفّف دُمُوع
د محسن عبد الخالقمشهد مِلاحَةُ فى بُحُورِ مُضطَرِبَةُ ..دُمُوعُ تُجَفّف دُمُوع ..
وحين إنتقلت من المرحلة الإبتدائية إلى المرحلة الإعدادية ، حَزِنتُ على هذا الفراق القَصرى حُزنًا شديدًا ، وكتبت للأستاذ " إسماعيل الحداد " خطابًا فَرَدَّ علىَّ بطريقة رقيقة وأرفق بالخطاب صورة له ، رأيت ملامحها عائمة فى دموعى ، وكانت والدتى تحاول أن تجفف دموعى بالدموع أيضًا ، فقد كان هذا المُعَلّم العظيم هو أعظم من عَرفت على طول مَرَاحل تعليمى قاطبةً ..
ولم يكن الإنتقال من المرحلة الإبتدائية إلى المرحلة الإعدادية مُجَرَّد إنتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى بعدها ، وإنما كان الإحساس أن هذا ليس مُجَرَّد إنتقال من مدرَسَة إلى مدرَسَة أخرى ، وإنما سَفر من وطن إلى وطن آخر غيره ! . كان كل شىء جديد علىَّ المدرسة ، المدرّسين ، الزملاء ، شكل مجموعة الكتب التى استلمتها مربوطة بالدُبَارة . المناظر ليس فيها جديد لعينى ولو أنها جديدة على إحساسى حتى بدا لى الأمر كأنى فى سفينة تبتعِدُ عن الرَّصِيفِ وتَدّخُل البوغَاز لتخرج إلى عَرض البحر وسط ظلام الليل وتحت كتل الضباب المتراكمة ..
ان هذا الإنتقال كان يبدو مثل مُسافر على شراعِ تائِه ! .
ولم يكن الإنتقال من المرحلة الإبتدائية إلى المرحلة الإعدادية مُجَرَّد إنتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى بعدها ، وإنما كان الإحساس أن هذا ليس مُجَرَّد إنتقال من مدرَسَة إلى مدرَسَة أخرى ، وإنما سَفر من وطن إلى وطن آخر غيره ! . كان كل شىء جديد علىَّ المدرسة ، المدرّسين ، الزملاء ، شكل مجموعة الكتب التى استلمتها مربوطة بالدُبَارة . المناظر ليس فيها جديد لعينى ولو أنها جديدة على إحساسى حتى بدا لى الأمر كأنى فى سفينة تبتعِدُ عن الرَّصِيفِ وتَدّخُل البوغَاز لتخرج إلى عَرض البحر وسط ظلام الليل وتحت كتل الضباب المتراكمة ..
ان هذا الإنتقال كان يبدو مثل مُسافر على شراعِ تائِه ! .
فى كل مرة أمرّ فيها من أمام المدرسة قلبى ينقبض لمجرَّد تفكيرى أننى لن أعثر ثانية على أثر الذين أحببتهم .
كان أعظم ما أحبه وأحترمه فى هذا الأستاذ حرصه على إتصاله الروحى بتلاميذه ، تعلمت منه كيف يجب أن تستمر الرابطة المُقَدَّسة بين المدرّس وتلاميذه مهما شط المَزَار ، وهو ما إعتبرته دستورً أطبقه مع تلاميذى فى الجامعة ..
كان أعظم ما أحبه وأحترمه فى هذا الأستاذ حرصه على إتصاله الروحى بتلاميذه ، تعلمت منه كيف يجب أن تستمر الرابطة المُقَدَّسة بين المدرّس وتلاميذه مهما شط المَزَار ، وهو ما إعتبرته دستورً أطبقه مع تلاميذى فى الجامعة ..
لذلك كان حرصى شديد على أن يكون هو أول الحضور الجالسين فى الصف الأول أثناء مناقشة أطروحتى للدكتوراه ، إعلاءً وتكريمًا ، لذلك قررت أن أبحث عنه على الرغم من أن إشارات الضبط كانت تشير إلى أن الزمن الباقى على المناقشة ضَيّقًا جدًا ويحسب بالساعات والدقائق فقط ، إلا أنى حرصت على الذهاب إلى مدرستى الإبتدائية أسأل عن عنوان أستاذى الذى ترك فى نَفسى أثرًا لا يُمحَى كى أدعوه ليرى بنفسه ثمرة جهاده الذى نحن شهوده ، وتمنيت أن يكون على قيد الحياة والحمد لله ما تمنيته تحقق ، أنه يقيم فى منطقة خارطة أبو السعود بمصر القديمة ، ذهبت وكانت خطة بحثى عن العنوان أشبه برقعة الشطرنح ، أقوم بعملية مسح شامل طولا وعرضا مربعًا بعد مربع قبله حتى هدانى لمسكنه " مكوجى " قريب من مسكنه عرفت منه أنه مقيم 37 شارع بن منذور . ولما وصلت إلى المنزل وإلتقيته قدمت له كارت دعوة للحضور ، فى البداية ظن أنها دعوة فرح ، ولما فتح المظروف وقرأ الدعوة ، إذا أفاجأ به يكاد ينهار من شدة البكاء وهو يردد أكثر من مرة معقول ، معقول ، " ! ، فيه حَدّ فاكرنى كِدة من تلاميذى " ثم إنخرط مستمرًا فى بكاء أشد ، فأذا أهل بيته يسرعون فى لهفة لمعرفة سبب ما جرى ، ولما شرحت لهم إذا بهم قد تجمَّدوا فى أماكنهم من شدة الزهول ..
وبالفعل شَرُفت بحضوره ، وظل جالسًا حتى نهاية مناقشة استغرقت خمس ساعات ، كنت فيها على مستوى النِزَال والبسالة العلمية كما ذكرت لجنة المناقشة والتى أجمعت بكامل أعضائها على أن من بين أسباب التفرُّد فى هذه الرسالة " اللغة الصحيحة " التى كُتِبت بها ، وأنها رائدة ومكتشفة ، وتستحق درجة الإمتياز مع مرتبة الشرف الأولى ، ونظرًا لقيمتها العلمية توصى اللجنة بطبعها على نفقة الجامعة وتداولها فى جميع الجامعات .
بعدها تكلمت قُلت :
أشكر اللجنة الموقرة ، وأودُّ أن اسجّل حقيقة ، ثم أشرت بإصبعى نحو أستاذى " إسماعيل بك الحداد " ، وقلت :
إن ثناء لجنة المناقشة على اللغة الصحيحة التى كُتبت بها ، يرجع إلى هذا الأستاذ العظيم الذى يجلس بينكم فى القاعة الآن ، " إسماعيل بك الحداد " أستاذى فى المدرسة الإبتدائية ، هو صاحب الفضل الأول الذى وضع الأساس الصحيح لهذا المعنى ! .
ثم نزلت من فوق خشبة المسرح الذى جرت عليه المناقشة وإتجهت اليه وخلعت روب أستاذ الجامعة بلونه الأسود ، وألبسته له ، ثم صعدت به فوق خشبة المسرح ليكون هو المُتوّج مَلكًا فوق عرش هذه الليلة ، فإذا هو ينهار من شدة البكاء وسط عاصفة التصفيق .
مازلت أحتفظ بالإحساس الذى يسكن هذه الصورة مع أستاذى ، ومازلت أحتفظ بعطر ملابسه أثناء لحظة العناق بل وأكاد أسمع نبرة صوته ونبضات قلبه ..
وإستمر بيننا الوصل حتى إذا كانت زيارتى الأخيرة له فإذا بى أشعر بمقدمات ضعف ووهن جسمانى أخذ يعانى منه ، وبدا لى أن القدر يحاول أن يطفىء بقايا شمعة تذوب ليس هناك غيرها فى قتام الليل ، وتنهَّدت من أعماق قلبى وبدا فى الصوت الصادر من حنجرته شيئًا يشبه الأنين ..
بعدها شعرت أنى كنت على أعتاب لقاء له طعم الوداع ، وفراق له طعم الموت ! .
ثم إنصرفت ..
رحمه الله على إنسان عظيم ترك فى هذه الدنيا أثرًا وذكرى