من كتابى :الملاحة فى بحور مضطربة .. ” سيمفُونيَّة بَاكِيَة ” ..

جريدة البوابة المصرية
جريدة البوابة المصرية
وزير الري: يوجه بالإستفادة من املاك الوزارة يتماشى مع التوجهات العامة للدولة جهاز تنمية المشروعات يطلق النسخة السادسة من معرض "تراثنا" للحرف اليدوية والتراثية 12 ديسمبر المقبل وزيرة التنمية المحلية تشارك في فعاليات إنطلاق النسخة الخامسة من الأسبوع العربي للتنمية المستدامة بجامعة الدول العربية تعرف من عارف علي اسعار الفاكهة جملة اليوم الأحد 24 نوفمبر 2024 تعرف من عارف علي اسعار الاسماك اليوم الأحد 24 نوفمبر 2024 جامعة أسوان تنظم يوم رياضي ضمن مبادرة 100 يوم رياضة وإقامة المباراة النهائية لبطولة دوري الأنشطة الطلابية تعرف من عارف علي مواعيد مبارايات اليوم الأحد 24 نوفمبر 2024 ساعات ويختتم العالم قمة المناخ COP29 بباكو عاصمة أذربيجان تعرف من عارف علي اسعار الخضار اليوم الأحد 24 نوفمبر 2024 تعرف من عارف علي اسعار الذهب اليوم الأحد 24 نوفمبر 2024 محافظ الإسكندرية: رفع درجة الاستعدادات للتعامل مع توقعات الهيئة العامة للأرصادالجوية تعرف من علي اسعار الحديد والاسمنت اليوم الأحد 24 نوفمبر 2024

مقالات

من كتابى :الملاحة فى بحور مضطربة .. ” سيمفُونيَّة بَاكِيَة ” ..

الدكتور محسن عبد الخالق
الدكتور محسن عبد الخالق

كان صديقى يجلس إلى جوارى فى السيارة ، وعلى طول المسافة المؤدية إلى " الأسكندرية " رافقنا سَحَاب يتقطَّع ، يَنفصل ، يتَّصل ، ويهبط كأنه شهيق الرّيَاح وزَفيرُها ، وكان الطَّرِيقُ صَمت يتقوَّسُ على الأرضِ ..
حتى إذا وصَلت السَّيارة إلى حَافة رَصِيف شارع " صَفية هانم زَغلول " كان صديقى الذى عرفته سِكِيتًا ليس صَخَّابًا صَيَّاحًا مازال يواصل حديثه بصوتِ جَريح بمشَاعِر الأسَى ، ونَبرة مَجرُوحَة بالشَّجن ، وحُرقة تَسَرَّبت إلى صَوتِه إستوقفت سَمعِى ، قال كلمات تَكَسَّرَت حُروفُهَا على شَفتَيه :
هل رأيت عذابًا أقسى من هذا العذاب ؟
لا أعرف كيف أقُصُّ عليك وَجَعِى ..
انها الجحيم بعينه لا أستطيع أن أصَؤّرهُ ، ومع ذلك لستُ أستطيع العيش سواء مَعَهَا أو بَعيدًا عَنهَا ، وهكذا وجدتنى مُنقَادًا نَحوها بقُوة لا تُقَاوَم ، إن مَكِيدَة الأقدَار قد رَبَطتنى بإمرأة لم تُخلَق لِمِثلِى ، لكنى بِحَاجَة إليها ، لم أعرف أنى هكذا أحبها ، ومن المُحَال أن أحتمل فُراقها ! .
قالها صديقى والألم يَتَمَوَّج فى كيانه ..
ثم أضاف :
بى ضَعف إزاءها لا أستطيع أن أغَالبه وربما لا أريد ..
عبارة بَدَت وأنا أسمعها كأنها آهَة تَصَاعَد منها الدُّخَان ..
كانت أوجَاعه لها حَشرَجَة أسمعُها فى صَدرِه وهو يقول :
إن قلبى تخلَّى عنى ! .
قلت :
إذا تخلَّى عنك قلبك تذكّر أن لك عقل يمكن أن يسَاندك ..
لم أشأ أن أقاطعه وتركته يفيض فى شَرح شَجَاهُ ، فقد أدركت أنه يَمُرّ بحالة عاطفيَّة حَرِجَة ، وأنى أمام نِصف إنسان يعيش مع نِصفه الآخر الغَائِب عن الوعى ، أو نِصفه الآخر الذى يَرفُضه ! .
قُلتُ لنفسى :
إن صديقى وقع صريع هواجس ونهب وساوس ..
سكت لحظات ثم قال :
أشعر باليأس ، هناك أشياء لم أعد أستطيع أن أقولها لأى أحد ..
ثم أشار بأصبعه إلى شَجرة مُهملة كانت فى الحديقة المجاورة وقال :
أوراق هذه الشَّجرة تتساقط لاهِية لا مُبَالية فى الهواء ، الشَّجرة عَطشَى أرهقها الظَّمأ فتقوَّست كعلامة إستفهام تكتب رثَاءها على ما بَقىَ لها من أوراق ..
قلت له :
وهناك كذلك أشجار أخرى تقف بجوارها شَامخة تتحدى الرياح ..
إن اليأس أقرب نُقطة للأمل حتى عندما يكون الجِسر بينهما مكسُورًا ! .
قال لى :
تصوَّر بعد طول السنين إكتشفت أننى كنت غريبًا مَعَهَا ، ولست جزء من صميمها ، أن ما تصورته فى البداية حلما تناقض مع ما رأيته فى النهاية فعلًا ..
وآثرت أن أتركته يروِ قِصَّته لأنه فى بعض الأحيان راوِ الحكاية أكثر أهميَّة ممن كَتَبَهَا ..
كان يتحدث وفى لهجته مرارة طعمها يضايق أنفاسه حين قال :
تصورت أننى الزوج الوحيد الذى إبتُلِىَ بهذا البلاء ، لم أكن قد تَبَيَّنت أن أكثر الازواج منكوبون بزوجات من هذا الطراز ، وأن كل واحد منهم يحسب نفسه التعس الوحيد من بنى جنسه ، فيحاول جاهِدًا إخفاء حظّه السّيىء عن الآخرين وعدم الإعتراف به ، حتى عن نفسه ! .
كان قد أرهقنا السفر ونحتاج لطعام ، وفى الوقت الذى بدأ فيه الغَيم يتمدَّد فى الأفق ، كانت شوارع المدينة عامرة بالمطاعم ، ولم نكن فى حاجة إلى دليل ليدور بنا فى دروب ضيّقة ، حتى بلغنا مطعما لا يُنِذر منظره بخير ، وقف ببابه رجل يلبس قميصًا بدون ياقة من الصّنف الذى يزرر أعلاه بزر من نحاس ويبرز من قفاه زرار نُحَاسِى آخر ، وهما مربط الياقة ، إن وُجِدت وكان لها إعتبار عند صاحبها . ولا أذكر ماذا كان يلبس فى قدميه ، لم يكن حذاء على كل حال ، ربما كان شبشب ، ولكن السنوات الطوال التى مضت على تصوره لى مُنتعِلًا قُبقَابًا ! هذا الزَّرِىّ الهيئة والبزّة الشبيه بالخواجات الغلابة أيام زمان بشارع كلوت بك أو درب الجنينة ، إستقبلنا هَاشًّا بَاشًّا ، وصَفَّق بيديه على الطريقة البلدية وإحتفَى بنا فى عربية لَكْنَاء :
أهلًا وسهلًا بالأحباب !
ودخلنا المطعم البلدى الذى يعرفه صديقى لنجلس إلى موائد من رخام أو زنك أو خشب ، وقُدّمَت لنا قائمة الطعام مكتوبة بفرنسيَّة مَاسِحَة ، وعربية كنَغَابِيش الفراخ ، تُزاحم هذه وتلك أصناف من البقع . وأكلنا طبق " مبرومة " – أى بامية – وأرز وربما جاء الحلو كنافة أو عيش سرايا ، والله أعلم !
بعدها خرجنا ، وبينما كان النور قد بدأ ينكفىء على الظلام ، أشار صديقى إلى شقة فى بيت يسكنه ، كان البيت غارقًا فى الظلام ، فيما عدا خطوط ضوء تبين من خلال الرقائق العرضيَّة للباب الخشبى الذى يسبق الضلف الزجاجيَّة ، وكانت خطوط الضوء العرضية وراءه هى الإيحاء الوحيد باليقظة أو السَّهَر ، وبان وسط تضارب التصورات خط راح يزداد وضوحًا كلما ركزت عليه ، وكان تفكيرى ينتقل من تصوُّر إلى تصوُّر كأنها طرفات جفن ..
وفى البيت كان أول ما وقع عليه بصرى فى الغرفة صورة مُعَلَّقة على الحائط ، شاخت خطوطها على الجدران ، كانت تنحنى إلينا كأنها تصغى لما نقول ، وليست هذه الصورة صمَاء ! .
فى صباح اليوم التالى كان الغيم يمشى على أطراف أصابعه أمام " قلعة قيتباى ،
وكان المَوجُ يَصْطفِقُ على شُطآنِ السَراب . توقفت طويلا قُرب حافة الماء أصغى لصوت الشاطىء وهو يقرأ تاريخ الماء ..
فى تمام الساعة الثانية بعد الظهر كنت والسيدة زوجتى على موعد مع صديقى القبطان أحمد بك عبد اللطيف أحد نبلاء " الأسكندرية " والسيدة الجليلة حرمه الأستاذة سهيلة هانم نظمى الصحفية الكبيرة بالأهرام ، استجابة لدعوة كريمة على الغداء فى " المطعم اليونانى " ، ومن شرفة هذا المكان البديع رحت أتأمل مشهد المراكب وهى خاشعة كأنها تصلى فى هذا الركن المُبهر من هذا " الشاطىء النغمى " الذى يبدأ بخط مُنحنى يحمل معنى الحلاوة يتحرك تاركا أثرا وراءه من نقطة تدفع نفسها بسهولة من " قلعة قايتباى " وحتى " مكتبة الأسكندرية " ، قوس موسيقى يذكرنا بعبقرية " ماتيس " و " ميرو " وهما يعزفان بالريشة مقاماتهما اللونية المُدهشة ..
فى هذا الركن القَصِىّ الفاتِن من الشاطىء فى ما يُعرَف " بمَنطقة بَحَرى " امتد اللقاء حتى بدأت الشمس تلملم أطراف الحَذَر إيذانا بالرحيل ، وبدا واضحا أن الضَوء هو الوَصٍىّ على عَرشِ الماء ..
وتذكرت ما قاله التاريخ عن " الأسكندرية " يقول التاريخ :
كان يَمُرّ الغُزَاة تحتَ أسنان " الأسكندرية " كمثل اللبان ، وفى جامع " المُرسِى أبو العبَّاس " كانت الجدران مُعطَّرة برائحة يُود البحر ، وعلى باب جامع " البوصيرى " وقف رجل كمثل عصَا طويلة يُصَّدِق أنها ستنقلب إلى حَيَّة ، وفى ساحة المنشِيَّة طُيُورُ تُمَارِس الحُب ، وفى كوم الدّكة شارع سيد درويش ، الشاعر بن نُبَاته وشارعه ، وفى المقهى الذى يُسَمَّى " بورصة الشيخ سيد درويش البحر " مثقفون ، كتاب ، شعراء ، فنانون ، صحفيون ، إعلاميون ، قُراء ، أوركسترا واحد وإن اختلفت اللغات ، وعلى كل مقعد ذاكِرة تركت حُزنها فى العراء ، وكان الدُّخَان يُطَارِد الهَواء الذى كان لا يزال يتنفس السَّراب ، وتَذكرت يوم دُعيت مُتحَدِثًا فى النَدوة التى أقيمت فى مقهى " ريش " الشهير بوسط القاهرة ، تَذكارًا لصديقى الناقد الكبير الدكتور " لويس عوض " وحضرها كُثر من مثقفين وكُّتاب كانوا يتحدثون عن الثقافة وكأنهم يسبحون فى الكُتبِ ويقرَاون فى الماء !
حدائق المُنتَزَه :
الأسكندرية غَرام أساسى فى حياتى دائمًا ما يزداد حنينى إليها ليس بِوَصفى زَائِر لها وإنما عَاشِق وقع فى هواهَا ، ويزداد حرصى على زيارة حَدَائقها الفاتِنة " المنتزه " تلك التى يَربِطُنِى بأشجارها هذا الشَجن المُبهَم الذى يَتَبَدَى فى صوت تلك السِيمفونيَّة المُؤَلَّفَة من حَفِيفِ الشَّجَر .
وهذه الحدائق ليست مُجرَّد مساحة جغرافية خضراء ، وإنما هى مُدَوَّنَة تاريخيَّة وقصيدة شعرية نُظّمت فى الحب والجمال ..
فى كل مرَّة أعود إليها أشعر فى أعماقى هيامًا ووجدًا ، يزداد وأنا أتأمل من فوق روابيها الخُضر " الأسكندريَّة " مدينة عاطفيّة تَتَقَلَّب فى أحضَن البحر بينما البحر تتلألأ أمواجه بأضواء فسفوريَّة قويَّة غَلبت سواد الليل ، منطقة بديعة فى ضيائها . لحظات عَبَرَت وإذا الضباب الخفيف الحَالِم يُغَطّى مُحَيَّاهَا ، وإذا الظِلالُ ترتفع لتحتل البِقاع التى تُوَدّعها الشَّمسُ ، ثم لحظات بعدها مَرَّت وإذا الشَّمسُ قد بَدَأت تُلَملِم أطرافَ الحَذَر ، وإذا الموج يَمضى فى هَمسِهِ لرمال الشاطىء يَروِى قِصَّته ونَجوَاه اللتين لن تنتهيا إلا إذا إنتهى الزمان . فى ظل تلك الطبيعة الأخَّاذَة رحت أُفَكّر ، وأطالع ، وأتأمل ، وأقرَأ أبجَدِيَّة الغروب ومُفرَدات الرَّحِيل ..
وكان على طرف الشاطىء الصّخرى صيَّاد يقف حَافِيًا كأنَّهُ " ألف " يَقرَأ أبجَدِيَّة المَوج .. وقفت أُراقِبه عَرِفت أنَّهُ ينتظِر سَمَكَة كانت نَائِمة فى الزَّبَد . وعلى مدَدّ الشَّوف سفينة تَتِيهُ فى بيدَاءِ المَاء ، السفينة تُبحِرُ وتجهل كيف تقرأ الشَّاطىء ؟
ها هو البحر لا يُغَيّره الزَّمَنُ ..
ها هو البحر يبتَلعُ التَاريخ ..
ها هو التاريخ يغرق ! ..
إذا أردت أن تعرف اللون الحقيقى لزرقة البحر إنظر إلى ثوب الأسكندرية ، كل شرايين الأرض موصُولة بقلب " الأسكندرية "
لم أعرف مدينة تتوضأ فى الفجر بالنَّدَى ، وفى النَهَار تتوضأ بالضَوء غير " الأسكندرية " ..
ألتقيتها أول مرَّة على صفحات كتاب " القراءة " تحت عنوان " رحلة إلى الأسكندرية " وأنا مازلت تلميذًا بالصف الثالث الإبتدائى بمدرسة المُنيرة الإبتدائية بمدينة القاهرة ، ولمَّا التقيتها بعد ذلك وجها لوجه وجدت فيها تلك الصُّورة الرائعة التى كنت أتخيلها فى صِبَاى ويرسمها خيالى فى طفولتى ، وتلك هى اللحظة التى وقعت فيها فى هواها ، وصارت عِشقًا يمشى فى شرايينى ! .
ويوم شَرفت بدعوة كَريمة من " جامعة الأسكندرية " الموقَّرة لإلقاء محاضرات ، أذكر أن أول محاضرة ألقيتها على تلاميذى بهذه الجامعة العريقة كانت حول الدور الحضارى التى لعبته " الاسكندرية " فى عصرها الذهبى ، قلت فيها : الأسكندرية هى الوثيقة الجغرافية التى تؤكد شرعية الجمال على طبيعة هذه الأرض . ثم مضيت أتحدث عن الدور الحضارى لهذه المدينة الخالدة فى عصرها الذهبى الذى يكشف عن أن هذا العصر كان إمتدادا للحضارة المصرية أكثر منه إمتدادا للحضارة اليونانية عبر البحر المتوسط ، وهو الإتجاه الذى ساد منذ أيام " هيرودوت " فى القرن الخامس قبل الميلاد ، وحتى " توينبى " و " ويلز " فى القرن العشرين ، كما أن الجذور المصرية الاصيلة موجودة فى التوجهات الدينية ، واللاهوتية ، عند علماء الأغريق ، وكذلك نظريات الفلك وأصول الطب والتشريح والمذاهب الفكرية والفلسفية . فى منطقة " نَقرَاش " القريبة من إيتاى البارود بمحافظة البحيرة ، عاش " طاليس " أبو الفلسفة اليونانية وأستاذ " سقراط " و " أفلاطون " و " أرسطو " ربع قرن فى القرن الخامس قبل الميلاد . على أرض مصر عاش قادة الفكر وزعماء المعرفة الإنسانية من الفلاسفة ، والرياضيين ، والفلكيين اليونانيين أمثال " فيثاغوث " و " إقليدس " .
إن مصر لها الحق - دون كل ولايات الامبراطورية الرومانية – أن تَتِيهَ فَخرًا على غيرها لأنها كانت الملجأ الذى هاجر إليه العائلة المُقدَّسة تحاشيًا لإضطهاد " هيرود " . إن الأغلبية الوطنية عقيدتها إختلطت بِدَمِهَا وبشَرَفها . وأن قرارها السياسى أصبح فى ضميرها نوعًا من عودة الروح إلى إستقلالها الوطنى إستقلال القلب ، وكان هذا الإصرار على إستقلال القلب دائمً من مفاتيح فهم التاريخ المصرى . لا يعرف مصر إلا من قرأ تاريخ التراكم الحضارى على طول العصور ..
ثم مضيت أرسم لهم صورة حيَّة وغنية بالصور لونا ، وصوتا ، وصفت فيها البحر الأبيض بأنه أشبه ما يكون بسطح مائدة أحاطت بها مقاعد تجلس عليها ثقافات متنوعة تمثل حصة الأغلبية فى شراكة الحضارة العالمية وهو مائدة مستطيلة حولها من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب مواقع ظهرت وإستقرت عليها ثقافات المصريين ، والآشوريين ، واليونان ، والرومان ، واللاتين ، والعرب من دمشق حتى قُرطُبَة ..
ومن هذ الموقع المُتفرّد تبدو " الأسكندرية " مدينة لها شعاع لا ينطفىء على شاطىء البحر الذى تَحَلَّقت الحضارات حوله ، وإرتكز التايخ على صُخُوره ، وكتبت الإنسانية واقفة أمامه بعضًا من أشهر الصفحات فى قِصَّاتها ، تلك الأرفع قيمة ، وتلك الأدنى تواضُعًا ..
إن تاريخ مصر هو تاريخ الحضارة الإنسانية حيث أبدع الإنسان المصرى وقدم حضارة عريقة سبقت حضارات شعوب العالم ، حضارة رائدة فى ابتكاراتها وعمائرها وفنونها حيث أذهلت العالم والعلماء بفكرها وعلمها فهي حضارة متصلة الحلقات تفاعل معها الإنسان المصرى وتركت فى عقله ووجدانه بصماتها• لقد كانت مصر أول دولة فى العالم القديم عرفت مبادئ الكتابة وابتدعت الحروف والعلامات الهيروغليفية، وكان المصريون القدماء حريصين على تدوين وتسجيل تاريخهم والأحداث التي صنعوها وعاشوها، وبهذه الخطوة الحضارية العظيمة انتقلت مصر من عصور ما قبل التاريخ وأصبحت أول دولة فى العالم لها تاريخ مكتوب، ولها نظم ثابتة ولذلك اعتبرت بكافة المعايير أما للحضارات الإنسانية ، إن لمصر دورها الحضاري والتاريخي والديني حيث كانت المكان الذى احتضن الأنبياء ، والأرض التي سارت خطوات الأنبياء والرسل عليها ، فجاء إليها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وتزوج منها السيدة هاجر ، وجاء إليها يوسف عليه السلام وأصبح فيها وزيرا وتبعه إليها أبوه يعقوب ، ودار أعظم حوار بين الله عز وجل وبين موسى عليه السلام على أرضها . وإلى مصر لجأت العائلة المقدسة السيدة مريم العذراء والسيد المسيح طفلاً ويوسف النجار وقاموا برحلة تاريخية مباركة فى أرضها ، وقد اختار الله سبحانه وتعالى مصر بالذات لتكون الملجأ الحصين الذى شاءت السماء أن يكون واحة السلام والأمان على الدوام وملتقى الأديان السماوية ، لقد تتابعت على أرض مصر حضارات متعددة فكانت مصر مهداً للحضارة الفرعونية، وحاضنة للحضارة الإغريقية والرومانية ومنارة للحضارة القبطية، وحامية للحضارة الإسلامية ، لقد اتسم شعب مصر على طول التاريخ بالحب والتسامح والود والكرم الذى تميز به هذا الشعب حيث امتزج أبناء مصر فى نسيج واحد متين . وهكذا دائماً يكون شعب مصر مصريون قبل الأديان ومصريون إلى آخر الزمان ..
إن مصر وهى تعيد إحياء الدور التاريخى المُؤثر لمكتبة الإسكندرية إنما هى ترسم صورة لعصرها ، وهى تقدم قراءة جديدة لمَجدها ولتاريخها ، وأن هذا زمانها ، وهذا دورها ، وهذا قدرُها ..
أودُّ أن أقول إن الذى يعرف الحضارة عند منابعها الرفيعة يُدرك أن السبق الحضارى سمة أصيلة من سمات المصريين ، وأن مجرى التاريخ تلازم مع مجرى الحضارة الإنسانية على ارضها ، وأنها هى كاتبة النَّص الحضارى والإنسانى على تعاقب الأجيال مع إختلاف العصور ..
وفى ختام المحاضرة قلت :
هذا عن الأسكندرية ، أما عن نفسى فأنا لى قلبان :
قلب يدُق فى القاهرة ..
وقلب يخفق فى الأسكندرية ..
اليوم أنا سعيد الحظ أن تعرفت على أبناء مدينة المعارف الإنسانية والفنون الرفيعة ، وأشعر بألفة وأنا أعمل معكم .
أنا عندى ضعف تجاه " تلاميذى " فى كل الظروف والأحوال هذا غرام أساسى فى حياتى .
ثم سَكت لحظات سَادَهَا صَمت عُدتُ بعدها وقلت :
تمنَّيت لو كنت من أبناء الأسكندرية ..
بَعدَ هذه " العبارة " التى قُلتها بِصِدقِ ، لم يَدُر بِخُلدِى أن لها فعلُ ، وسِحرُ ، وشُعَاعُ ، نَفَذَ إلى أفئِدَةِ هؤلاء الأبناء النُبَلاء ، فإذا بتصفيق حَاد ومُزلزِل إهتز معه زجاج النوافذ داخل قاعة الدَّرس التى بَدت مُزدَحِمة كأنها مُدَرَّج مبارة لكرة قدم . مازالت هذه الأصوات لها رجع صدى يتردد فى أذنى حتى الآن رغم أيام باعدت عن أيام .
مشهد لا يغيب عن خاطرى أبدًا .
ما من مرّة أغادر فيها الإسكندرية عائِدًا إلى القاهرة إلا وقلبى يظلّ عَالقًا بها ، بل أكاد أستشعره يخفق " عِشقًا " فى صدرى ، ثم هَمسًا أقول لنفسى :
لو أنى إستطعت أن آخُذُهَا معى ! .
وفى الطريق إلى القاهرة أفضّل العَودَة راكبًا القطار وعلى طول الطريق من الإسكندرية إلى القاهرة كان صوت قطار السكة الحديد يبدو كأنه هو نبض الإسكندرية يدقُّ فى صَدرى لحظة ويترفق لحظات !



Italian Trulli