مقالات
فى قِيمَة وأَدَبِ اَلتَّوَاضُعِ ..لوْحَةٌ
الدكتور محسن عبد الخالق كَانَ الأُسْتَاذُ يَحْيَى حَقِّيْ يَتَرَأَّسَ الأُسْتَاذُ نَجِيبْ مَحْفُوظْ فِي العَمَلِ ، وَكَانَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَدْخُلُ أَوْ يَمُرُّ عَلَى الأُسْتَاذِ نَجِيبْ مَحْفُوظْ فِي مَكْتَبِهِ كَانَ الأُسْتَاذُ نُجِيبْ يُصِرّ عَلَى أَنْ يَقِفَ مُرَحِّبًا بِهِ ، وَكَانَ الأُسْتَاذُ يحى حَقِّى يخجل ويُحَاوِلُ بِشِدَّةِ أَنْ يُثْنِيَهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَجْلِسَ إِلَى جِوَارِهِ ..
هَكَذَا كَانَتْ " أَخْلَاقُ الكِبَارِ " كِلَاهُمَا يَعْرِفُ قَدْرَ صَاحِبِهِ ، كِلَاهُمَا كَانَ يَسِيرُ بِاللُّغَةِ إِلَى آخَرَ اللُّغَةَ قَبْلَ أَنْ تَسْقُطَ اللُّغَةَ فى الدَّرَكِ الأَسْفَل مِنْ المَعْنَى ..
عَرَفَتْ كُلَّ مِنْهُمْ أُسْتَاذًا صَدِيقًا ، وفى كُلِّ لِقَاءٍ مَعَهُمَا كَانَ حَدِيثُهُمَا :
اَلتَّوَاضُعُ ، وَالسِّحْرُ ..
فى هَذَا السِّيَاقِ يَلْمَعُ بَرْقًا فِي خَوَاطِرِي الآن قَوْل الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" لَا تَرْفَعُونِي فَوْقَ قَدَرِي ، فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي عَبْدًا قَبْل أَنَّ يتَخَذِّنِىْ رَسُولاً " ..
وَكَانَ السَّيِّدُ المَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ القَائِدُ وَالمُعَلِّمُ لِتَلَامِيذِهِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ لَحْظَةَ أَنَّهُ يَغْسِلُ أَرْجُلَهُمْ وَيَخْدِمُهُمْ ..
دَرْسٌ رَفِيعٌ فِي قِيمَةِ اَلتَّوَاضُعِ ، وَالْعَلوُ ، والسُّمُوّ ..
ولَنَا فِي قِصَّةِ يُوسُفْ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِخْوَتُهُ دُرُوسَ مِنْ التَّوَاضُعِ ؛ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحْسَنَ إِلى إِخْوَتِهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَعَفَّا عَنْهُمْ وَأُكْرِمهُمْ - وَالْعَفْوُ مِنْ خَلْقِ المُتَوَاضِعِينَ - وَهُمْ قَدْ أَسَاءُوا إِلَيْهِ قَوْلاً وَفِعْلاً ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى مُعَاقَبَتِهِمْ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ..
كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ بِنْيَامِينْ قَالَ لَهُ : إِنِّي أَنَا أَخُوكَ " يُوسُفْ " ( 69 ) فَجَرَّدَ نَفْسُهُ عَنْ الأَلْقَابِ الوَظِيفِيَّةِ ، وَأَزَالَ عَنْهَا العَظَمَةُ السُّلْطَانِيَّةُ ، وَخَاطَبَهُ بِالصِّفَةِ التى يَشْتَرِكُ فِيهَا مَعَهُ ، وَهِيَ صِفَةُ الأُخُوَّةِ ، فَلَمْ يَقِلْ :
أَنَا العَزِيزُ يُوسُفْ ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ قَالَهُ لِبَقِيَّةِ إِخْوَتِهِ قَالُوا :
أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفْ قَالَ أَنَا يُوسُفْ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ . " يُوسُفْ " ( 90 ) . فَأَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ وَصَفَ العَزِيزُ ، وَنَحْوُهُ مِنْ نُعُوتِ اَلْعَظَمَةِ ..
وَفِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ الخُضَرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ دَرَس فِي الخُلُقِ الرَّفِيعِ فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذُو مَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ عِنْدَ اَللَّهِ تَعَالَى ، وَعِنْدَ اَلنَّاسِ ، فَهُوَ كَلِيمُ اَلرَّحْمَنِ ، وَمِنْ أَوَّلِيٍّ اَلْعَزْمِ مِنْ اَلرُّسُلِ ، وَمُؤَيَّدٌ بِالمُعْجِزَاتِ اَلْبَاهِرَاتِ ، وَأَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْهِ اَلتَّوْرَاة ، وَكانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهًا ، وَمَعَ ذَلِكَ رَحَلَ إِلى " اَلْخُضَرِ " عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ ، فَتَأَمَّلَ القِيمَةَ فى أَدَبِ اَلتَّوَاضُعِ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ مَعَ مُعَلِّمِهِ الخِضْرْ اَلَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ مَنْزِلَةً وَدَرَجَةً ، فَقْدٌ خَاطَبَهُ هَذَا اَلْخِطَابِ المُتَوَاضِعِ قَائِلاً :
" قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكُ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا " ( اَلْكَهْفُ : 66 ) . فَطَلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمُ بِهَذَا السُّؤَالِ :
" هَلْ أَتْبَعَكَ " ؟
وَفِيهِ مِنْ حُسْنِ الخِطَابِ وَالِاسْتِئْذَانِ مَا فِيهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ تَابِعًا لِلْخُضَرِ فَقَالَ :
" أَتْبَعَكَ " وَهَذَا مِنْ عِظَمِ التَّوَاضُعِ ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ جَاهِلاً مُحْتَاجًا إِلى تَعْلِيمِ الخِضْرْ فَقَالَ :
" عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِيَ " وَفِيهِ وَصَفَ لِلْخُضَرِ بِأَنَّهُ أَهْلُ لِتَعْلِيمِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ اَلِالْتِزَامَ بِالطَّاعَةِ وَعَدَمِ العِصْيَانِ فَقَالَ :
" قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ صَابِرًا وَلَا اَعْصِي لَكَ أَمْرًا " ( اَلْكَهْفُ : 69 ) وَهَذَا مِنْ اَلتَّوَاضُعِ اَلْعَظِيمِ ..
عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهُمْ فِي اَلْخُلُقِ اَلْكَرِيمِ ، ذَلِكَ أَنَّ الأُمَمَ لا تَنْهَضُ إلا بِأَخْلَاقِ مُوَاطِنِيهَا ..
إِذَا عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَيْقِظَ ..
اننا لنْ تَقْضِيَ عَلَى " اَلْغُرُورِ " إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا أَنَّ تَفْكِيرَنَا كَانَ ثَمَرَةً فِي بَذْرَةِ غَيْرِنَا ، وَأَنْ التَّوَاضُعَ هُوَ اَلثَّمَرَةُ المُسْتَحَبَّةُ وَالأَكْثَرُ نُضْجًا ..
عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَيْقِظَ ..
أن أَعْمَارُنَا سَائِلَةً ..
وأنه لا توجد مسافة بيننا وبين التراب ، وأننا نَجْىَءْ إِلَى اَلْحَيَاةِ كالمَطَرِ ، وكَالرِّيحِ نُرَحَّل عَنْهَا ..