مقالات
اسلام يوسف..يكتب الفريدو باتشينو..الأب الروحي
اسلام سيد يوسفالأب الروحي
لم يكن ألفريدو باتشينو ممثلا أو مخرجا عاديا..لذلك لم يكن مستغربا أن تلقي مذكراته التي اصدرها العام الماضي وهو بعمر الـ 84 كل اهتمام من كل المهتمين بالفنون والثقافة حول العالم
يقول كوبولا مخرج فيلم الأب الروحي: إن الفيلم كان استعاره فضفاضه عن امريكا نفسها
ويقول ماريو بوزو المؤلف...إن هذا العمل أتي رومانسيا بشده وهو مخالف لما كتبه بعد ذلك عن حياه العصابات ...فكتاباته بعد ذلك كانت واقعيه من الشارع ....
الحقيقه أن هذا بناء وهذا بناء أخر ...وفيما أتي فيلم "الرفاق الطيبون "مفرط في واقعيته ...أتي الأب الروحي.. مفرطا في اسطوريته.
فالبناء الميثولوجي أو " الأسطورة" في فيلم "الأب الروحي" تبدأ مع رحلة صقليه ومنفي "مايكل" ...وهي رحله مماثله للمطهر في فيلم "دانتي" ..وهي مقابله مع أرض الأجداد لمعرفته بعالم كان يرفضه "عالم الرجال"، وهي مقابله مع اغواء امرأة ..حيث كانت الصورة الأولي للمرأة تشع جمالا ووجه يتجاوز الواقع.
وهي رحله باطنيه يواجه فيها العنف علي اعلي مستوي ...فجميع رجال القريه قتلوا في عمليات الإنتقام ..وحبيبته انفجرت بها السيارة فيما كان هو المقصود بالقتل.
وقبل هذا يقوم مايكل بما ندعوه "تحول طقسي" ....بنداء داخلي أصر معه علي الذهاب لقتل "سالتزو والظابط الفاسد"...عند هذه النقطه يبدأ البطل في الإعتراف بالعالم ...وأنه مكان قاسي ...وأنه في لحظه معينه لابد وأن يقوم بما يجب القيام به ....فهو يخرج من عباءته ومثالياته وتصوراته الرومانسية عن العالم ...ليبدأ في استيعاب متناقضات الواقع وتعقيداته .
مشكله الميثولوجيا أنها تواجه أمريكا ...أمريكا عبارة عن نظام مغلق يعتمد علي القوة ...ومفاتيح الاسطورة وتحولاتها لا تعمل فيها ...الرموز الأن موجودة ولكنها فقدت صلتها بدناميكية المجتمع ..لذلك ما يحدث للبطل عبارة عن تحلل عدمي ...قذف في الفراغ ...نحن أمام "جانجستر مكتئب" ...لا يملك بوصله ولا أي مرجعية ...فحتي نفسه فقدها في صقلية ...وهويته الجديدة لا يفهمها ...لأن والده مات قبل الآوان ..وهو يملك حب له وحوارات لا تنتهي معه ...وتبقي دائما بلا رد شاف .
ما الذي يحدث للبطل عندما يقابل "ظله" وهو غير مستعد ...يصف "يانج" "ظل" الشخصيه بأنه كل الإمكانات التي لم تحدث ...كل الأماني ...كل الرغبات المكبوتة في اللاوعي ...هو نقيض للبرسونا ..وليس بالضروره شرير ...لكنه يحتوي علي سواد ...وعلي البطل عدم التهرب منه ...بل التصالح معه ومع رغباته ومحاوله تنسيقه بما يناسب المجتمع ومن حوله ...حتي لا يؤذي أحدا بلا ذنب. ...
لكن مشكله مايكل ،أنه تحول تماما إلي ظله في لحظه واحده وبدون وقت كافي ...كما قال له والده ...لذلك عندما يتذكر ماضيه يفكر في نفسه كأنه يتذكر شخص أآخر ...فقد اغترب تماما عن ذاته ...ولم يجد فرصه لمعرفه الشخص الجديد ..أو الدخول في نسق أسطوري يسمح له بالإنسجام فيه .
الفارق بين "مايكل" الإبن و"فيتو" الأب هو الفارق بين المافيا الإيطاليه والمافيا الأمريكيه
فالمافيا بنيت في ايطاليا علي اكواد العائلة ...لها سياق مجتمعي وسياسي ودفء عائلي وجماهيري ..في البدايه كان هدفها مواجهه الفاشيه ونصرة الجماهير ...أما المافيا الأمريكية فهي تثبيت لقوه الذراع والإستيلاء علي رقعة الأرض...عندما تذهب لبلد جديد بلا حضارة يبني علي خليط من أجناس متصارعة يحاول كلا منها السيطره والاستحواذ علي قطعه ارض لنفسه ...فنحن هنا أمام مبدأ القوه بشكل مجرد ...لا احترام لعادات أو سياسات أو حتي لقدسية ازهاق الأرواح .
"فيتو" هو طزاجه البدايات ...قدسيه التأسيس ...حلاوة البدايات وبداية الحضارة
"مايكل" هو الألية ...أنحطاط الحضارة...العدمية بشكل كامل ...نزع القدسية عن كل شئ ...هو انحطاط الغرب .
من يخون مايكل ليس أخيه ...بل مجرد تداعي لشئ كان لابد أن يحدث
عندما يخون البطل روحه ...يأتي العقاب من الداخل ...يأتي عبر سقطات اللاوعي ..عندما يأمر مايكل بقتل أخيه ...فهو هنا يقر بسياده القدر ...ثمن خيانة الروح هو التحلل ...هو العدم
بأمره بقتل أخيه فانه يتخلص من كل شئ نبيل ...ليصبح مسخ ...يصنع جحيمه علي الأرض ويجلس فيه حتي الموت ..ماذا يحدث عندما يصبح مايكل هو أقوي شخص في أمريكا والعالم ...لا أحد يستطيع عقابه ...لذلك قام هو نفسه بذلك .
أحد النهايات المقترحه للجزء الثاني من طرف كوبولا هي :أن يقوم مايكل بالرقص عاريا مع الخادمه
وهو ما رفضه ال باتشينو لأنه كان مازال" مينمال"، ما يرجعنا الي ذكاء وبصيرة أعظم ممثل في التاريخ
هو أنه عندما بدأ "ال باتشنو " أداء مشاهده في الجزء الأول فوجئ "كوبولا" بطريقه الباتشنو الاختزالية في الأداء ..حتي أنه سأله :هل سيكمل علي هذا المنوال..وهو شئ أصر عليه الباتشنو...الحقيقه أن ما فعله هنا.. شئ ينتمي لمجال الرؤية ..اي بصيره فنان صغير بحقيقه مثيلوجية ..فقد أدي الشخصية كنمط بدائي ..جعلها الوجه العدمي لحضاره غربية ...لأن في لحظه ما علي البطل في هذه الحضاره "الغربية " ولكي يبدأ رحلته ...أن يتخلي عن روحه .
كنموذج بدائي ...نجد هنا ابن يعشق أبيه ...العشق غايته الصيرورة ...العشق غايته الإتحاد بالمعشوق أن يصير واحدا معه ..لماذا ...لأن العاشق يريد أن يستنشق هواء المعشوق في صدره ... يريد أن يصير هو في كل ذراته ...وهذا شئ مستحيل في حضاره قائمه علي المنطق اليوناني ...أشياء مثل هذه لا تتحقق الا بالتجاوز ...بمنطق مشرقي ...ما ورائي ..أشياء ترجع ما وراء الخير والشر ..وهي أدوات لا يملكها "مايكل" ...لذلك يأخذ المسيح نموذجا ...ويصلب نفسه ويأخذ كل خطايا العالم علي كتفيه ..كيف يصلب الشخص نفسه في العصر الحديث ...الاجابة عن طريق قتل أخيه ..فبقتله يكون قد تخلص من أي شئ يجعله يحب الارض .
الفيلم حقا أستعاره فضفاضه عن خيانة الروح ،وتأسيس لنموذج اسطوري في حضارة جديدة عدمية بالكامل ،حضارة قوية علي المستوي الألي لن تجد من يعاقبها الا شئ مازال حي بداخلها شئ يدعي الندم ...
"كوبولا " فنان نموذج لضمير عصره يحكي الفيلم بالكامل بالمشهد الافتتاحي ....
في الجزء الأول :الحلم الأمريكي ...وبيان انحطاطه
الجزء الثاني : مشهد البدايه :حنين للفردوس المفقود
الجزء الثالت: الندم
مايكل هو ضمير عصر الانحطاط ورؤي "اشبنجلر"" ....
الحضارة تتحلل ولا شئ يوقف تحللها ...فلا شئ بأيدينا ...فقط نملك حنين "مايكل"...لعالم كان كل شئ فيه دافئ وله معني وطاقة في حد ذاته .
انتهي
الأسطورة تظهر حقيقة أخري ...حقيقة من باب باطني.